مصطفى جواد
من كتاب قـُل ولا تـقـُل / مصطفى جواد
ومن أشدّ الرزايا التي أصابت اللغة العربية أنّ أناسا من الكتّاب والشعراء يكتبون وينظمون وينشرون كلِمـاً غيرَ مشكول ، واللحن في غير المشكول لا يظهر ، فإذا قرؤوا كتابة أنفسهم ونظمهم بان عوارهم ، وانكشفَ لحنهم في أقبح الصور . وقد سمعتُ شاعراً مبدعاً يُقرن اسمه بالكبير ينشد قصيدة له فإذا هو لحّانه ، يكسر المفتوح ويفتح المضموم وينوّنُ الممنوع من الصرف ويكسر المضموم ، ويضمّ المفتوح ويفتح المكسور ويضم المكسور ... ويفعل غيرَ ذلك من الأوهام الصرفية دون النحوية لأنّ قواعد النحو معروفة محدودة ، وأما الضبط الصرفي فيحتاجُ إلى معجم مشكول أو سماع منقول مقبول . وهؤلاء قد حفظوا كلماً ملحوناً فيه من قومِ لحّانين وبقوا على جهالتهم .
وظهرت طبقة من الحُكاة المعروفين بالممثلين ابتليت بهم اللغة العربية فهم لها جاهلون ، وبها عابثون وبإفسادها عائشون . فمن يجعل العربية أداة لعيشه وذريعة لكسبه يجب عليه إن يحسنها بعد درس لقواعدها العامة إجادة لاستعمال معجماتها اللغوية . ليتحقق صحة ما أشكلَ عليه . ومن وهنت همته فعليهِ في الأقل أن يسترشد بها قبل العمل .
ومن أشد الرزايا التي نزلت بالعربية أيضاً أن أساتذة في التاريخ والجغرافية والعلوم لم يتعلموا من قواعدها ما يصون أقلامهم وألسنتهم من الغلط الفاحش واللحن الفظيع وإذا عوتبوا أو ليموا – وهم مليمون حقاً – قالوا نحن ندرس التاريخ والجغرافية والعلوم ، ولا يخجلون من هذا الاعتذار . مع أنهم أصبحوا سخرية الساخرين وضحكة الضاحكين ولا سيما مشاهدي " التلفزيون " مع أنهم يعلمون أن الانكليزي العام – على سبيل التمثيل - لا يخطئ الصواب في لغته ولو كان الخطأ الواقع منه في حرف جر لتناولته الألسن والأقلام باللوم والتقريع والتأنيب والتثريب .
ونرى في " تحريرات " الدوائر ودواوين الحكومة أغلاطاً تبعث على الأسف فرفع المجرور والنصب المرفوع من الأمور المألوفة فيها . ولا سيما الإعلانات والتنبيهات . فضلا عن السقيم من العبارات . وإني لأتذكر أني قرأت في العهد الملكي الزائل على باب مكتب اللجنة الطبية بمعسكر الرشيد هذه الجملة " ممنوع دخول القلم حفظاً لتفشي الأسرار " فتأمل جهل المنبه للتركيب التعبيري . أراد " منعاً لتفشي الأسرار " فوضع مكانه " حفظاً لتفشي الأسرار " ولم يخطر بباله " حفظاً للأسرار " فهو أوجز وأدل على المراد وأوفى بالمقصود .
ولا تسأل عن مترجمي الأفلام السينمية فهؤلاء أكلة السحت ، يرتكبون من اللحن والغلط الشنيعين ما أصبح مخشيا كل الخشية على العربية وطلاب المدارس . والشداة من الدارسين ، وليت شعري كيف تجيز لجنة رقابة الأفلام وهي لجنة منتخبة من موظفي الدولة ومنهم موظف من وزارة التربية والتعليم المهيمنة على شئون الثقافة اللغوية فلماً لغتهُ فاسدة مفسدة ، ناقضة لقواعد اللغة العربية . وأكثر المختلفين إلى دور السينما هم من طلاب المدارس والمعاهد والكليات ؟! "
مصطفى جواد
من كتاب قـُل ولا تـقـُل / الجزء الأول