الصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيام
الصيام لغةً
: يُطلق الصيام ويقصد به "مطلقُ الإمساك"؛ أي: التوقُّف عند كلِّ فعل أو قول، فالصائم إنما سمِّي كذلك لإمساكه عن شهوتَيِ البطن والفرج، والمسافر إذا توقَّف عن سيره سُمِّي صائمًا، والصامت عن الكلام صائم، ومنه قوله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26]، وكذا الفرس إذا أمسكت عن العَلَف فهي صائمة، وإذا قامت في موقفها، فهي في مصامها، وصوم الماء ركودُه، وصوم الريح توقُّفُها، وصومُ الشمس استواؤها في كَبِد السماء قُبيل الزوال، عند انتصاف النهار[1].
الصيام شرعًا:
إن المتتبع لعبارات الفقهاء - جزاهم الله خيرًا - في تعريف الصوم، يجدها جميعًا مفيدة لمعنى واحد، حتى إن لفظها يكاد يكون متطابقًا، ومحصِّل ذلك إجمالاً: أن الصيام هو الإمساك عن المفطِّر على وجه مخصوص[2].
ومعنى هذا التعريف تفصيلاً: أن الصيام هو إمساك المكلَّف الذي اشتغلت ذمَّتُه بواجب الصيام، وهو المسلم البالغ العاقل، العالم بوجوب الصيام، الناوي له، والمُطِيق له، غير المباح له الفطر لسفر، أو مرض، ونحوهما - عن تعمُّد ما يُفسد صومه من المفطِّرات؛ كأكلٍ أو شربٍ أو جماع، أو تعمد قيءٍ ونحوه، ويكون ذلك الإمساك من طلوع الفجر الثاني الصادق من يوم الصيام إلى غروب شمس ذلك اليوم.
فائدة في معنى شهر رمضان:
هو عَلَمُ جنس مركب تركيبًا إضافيًّا، وكذا باقي أسماء الشهور هي من حيز علم الجنس، وهو ممنوع من الصرف للعَلَمية والزيادة، وهو من الرَّمَض؛ أي: الاحتراق؛ سُمِّي بذلك لاحتراق الذنوب فيه، أو هو من الرمض كذلك، ومعناه: شدة العطش؛ لأن الإبل يشتد عطشها فيه، أما معنى "الشهر"، فلأهل اللغة فيه قولان، أشهرهما: أنه اسم لمدة الزمان، التي يكون مبدؤها الهلال ظاهرًا إلى أن يستتر، وسُمِّي الشهرُ بذلك لشهرته في حاجة الناس إليه في المعاملات، والمعنى الثاني: أن الشهر اسم للهلال نفسِه[3].
مراحل تشريع الصيام:
إن الصيام عبادة مشروعة، وتشريع ربّاني عرفته الأمم السابقة من أهل الكتاب؛ كما دلَّ عليه قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
ثم جاء الإسلام ليستقرَّ فيه تشريع الصيام على الوجه الأكمل، وقد اقتضت حكمة الله - تعالى - أن يتدرج هذا التشريع في مراحل، كما هو الحال في كثير من التشريعات في الإسلام؛ رحمةً من الله بعباده، وتلطُّفًا بهم، وتيسيرًا عليهم.
هذا؛ ويمكن لمن تتبَّع مراحل هذا التشريع العظيم أن يرتِّبها كالتالي:
المرحلة الأولى :الأمر بصيام الثلاثة الأيام البيض من كل شهر قمري، وصيام يوم عاشوراء - العاشر من المُحرَّم - والحثُّ المؤكَّد على ذلك.
عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: ((كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا بصيام يوم عاشوراء، ويحثُّنا عليه، ويتعاهدنا عنده، فلما فرض رمضان، لم يأمرْنا، ولم ينهنا، ولم يتعاهدنا عنده))[4].
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم ثلاثة أيام من كلِّ شهر، ويصوم يومَ عاشوراء، فأنزل الله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فكان من شاء أن يصوم صام، ومن شاء أن يُفطر ويطعم كل يوم مسكينًا أجزأه ذلك"[5].
مسألة:
في تعيين الثلاثة الأيام البيض، هل هي ثلاثةَ عشَرَ، وأربعة عشر، وخمسة عشر من كل شهر قمري؟
اتفق الفقهاء على أنه يُسَنُّ صومُ ثلاثة أيام من كلِّ شهر، وذهب الجمهور - الحنفية، والشافعية، والحنابلة - إلى استحباب كونها الأيامَ البيض، وهي الثالثَ عشرَ، والرابع عشر، والخامس عشر[6]، وسُميت هذه الأيام بذلك؛ لتكامل ضوء الهلال في لياليها وشدة بياضه؛ فهي الأيام التي تكون لياليها بيضًا مستنيرة، وفي الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يا أبا ذر، إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة))[7] ، وقد عنون الإمام البخاري - رحمه الله - في "صحيحه" بقوله: باب صيام أيام البيض: ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة.
ولعل من المناسب - في هذه المسألة - ألاَّ يعتقد المسلم بأن الثواب بصيام ثلاثة أيام من الشهر لا يحصل إلا بصيام هذه الأيام بعينها، بل هو حاصل - إن شاء الله - بصيام ثلاثة أيام من الشهر مطلقًا، لكنه يصوم ثلاثة البيض باعتبارها ثلاثة أيام من الشهر؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ((أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بثلاث: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أرقد))[8].
المرحلة الثانية :وهي التخيير في صيام عاشوراء، وكان ذلك بعد الأمر بصيام أيام معدودات، التي هي عِدَّة أيام شهر رمضان، وذلك في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ...} [البقرة: 183 - 184].
وقد صام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عاشوراء، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضانُ ترك[9]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه))[10].
المرحلة الثالثة:الترخيص بالإفطار في رمضان للقادر على الصيام، مع إيجاب الفدية عليه، فقد كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأدَّى الفدية؛ حيث إن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا قومًا لم يتعوَّدوا الصيام، وكان الصيام عليهم شديدًا.
قال الله - تعالى -: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184].
المرحلة الرابعة:نسخُ هذا الترخيص عند القدرة على الصيام؛ وذلك بقوله - تعالى -: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]؛ فعن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه - قال: لما نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184]، كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها[11]، فصار الأمر بهذه المرحلة أن كلَّ من شهد استهلال شهر الصوم - دخوله - من المسلمين، فقد وجب صيامه عليه، ولا رخصة له بالإفطار حال كونه قادرًا على الصيام، حتى لو أدَّى فديةً طعام مسكين.
المرحلة الخامسة:تخصيص الترخيص بالإفطار في رمضان في حالين؛ الأول: المرض في البدن الذي يشقُّ معه الصيام، أو يؤدي إلى تأخُّر بُرء المريض، أو يتسبب بزيادة مرضه، والثاني: حال السفر؛ بأن كان متلبِّسًا بالسفر وقت طلوع الفجر، فله في هذين الحالين أن يفطر، ثم يقضي بعد رمضان صيام أيامٍ، عددَ ما أفطره حالَ المرض أو السفر؛ قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185) .
وقد استقر التشريع - ولله الحمد - على ذلك الوجه الأكمل بعد أن تدرَّج بهم، مريدًا بهم اليسر، وإتمام عدة صيام الشهر المبارك، وذلك بصيامه كاملاً عند عدم العذر، وبتدارك ما فات منه بعذرٍ بالقضاء؛ قال تعالى: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
أما تأريخ تشريع فريضة الصوم، فقد كان ذلك في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة الشريفة، على الكيفية التي استقرَّ عليها، وقد صامه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تسع سنين.
أما كيفيته التي استقرَّ عليها، فهي: الامتناع عن المفطِّرات، من طلوع الفجر الصادق من يوم الصيام، إلى غروب شمس ذلك اليوم.
ومما يجدر ذكره هنا:أن الصيام لم تكن كيفيته كذلك في بداية تشريعه؛ فقد كان الأكل والشرب والجماع مباحًا ليلةَ الصيام، بشرط ألاّ ينام المبيِّت لنيّة الصيام في تلك الليلة قبل أن يُفطِر، كذلك ألاَّ يصلي العشاء الآخرة، فإن نام ثم قام من نومه، أو صلَّى العشاء، لم يبح له أكلٌ أو شرب أو جماعٌ بقيةَ ليلته، حتى يُفطِر عند غروب شمس اليوم التالي.
أما عدم حِلِّ الطعام ليلةَ الصيام إذا نام قبل أن يُفطر، فيدلُّ عليه قول البراء بن عازب - رضي الله عنه -: كان أصحابُ محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الرجل صائمًا فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلتَه ولا يومه حتى يُمسي[12].
وكذلك يدل عليه حوادثُ متعددة، كان حدوثها من بعض الصحابة - رضي الله عنهم - رحمةً للصائمين إلى يوم الدين؛ حيث كانت سببًا لنزول وحي يُتلى، كان فيه ترخيصٌ بالجماع وبالأكل والشرب ليلةَ الصوم، سواءٌ نام مَن بيَّت نية الصوم قبلَ أن يفطر، أو صلَّى العشاء الآخرة، أم لم يفعل أيًّا من الأمرين، ومن تلك الحوادث :
ما حدَّث به عبدالله بن كعب بن مالك - رضي الله عنه - عن أبيه: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل، فأمسى فنام، حرُم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد، فرجع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلةٍ وقد سهر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها، فقالت: إني قد نمتُ، قال: ما نمت، ثم وقع بها، فغدا عمر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره، فأنزل الله - تبارك وتعالى - قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187][13]، وقد حدث مثل ذلك مع كعب بن مالك نفسه - رضي الله عنه.
وقال البراء بن عازب - رضي الله عنه -: كان أصحاب محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - إذا كان الرجل صائمًا، حضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري - رضي الله عنه - كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلقُ فأطلبُ لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غُشي عليه، فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]، ففرحوا بها فرحًا شديدًا، ونزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187][14].
وأما تحريم الطعام والشراب والنساءِ إذا صلى العشاء الآخرة؛ فمما يُستدل به على ذلك: ما ورد من قول ابن عباس - رضي الله عنهما - في سبب نزول قوله - تعالى -: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]: إن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلَّوا العشاء، حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة، ثم إن ناسًا من المسلمين أصابوا من الطعام والنساء في شهر رمضان بعد العشاء - منهم عمر بن الخطاب، رضي الله عنه - فشكَوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله - تعالى -: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآَنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187][15].
وكذلك يُستدل له بقول القاسم بن محمد - رحمه الله -: إن بدء الصوم: كان يصوم الرجل من عشاء إلى عشاء، فإذا نام لم يَصِل إلى أهله بعد ذلك، ولم يأكل ولم يشرب، حتى جاء عمر إلى امرأته، فقالت: إني قد نمت، فوقع بها، وأمسى قيس بن صرمة صائمًا، فنام قبل أن يفطر، وكانوا إذا ناموا لم يأكلوا ولم يشربوا، فأصبح صائمًا وكاد الصوم يقتله، فأنزل الله - عز وجل – الرخصة؛ قال سبحانه: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187][16].
وبذا استقرَّ الأمر على حرمة المفطِّرات من طعام وشراب وجماع، وذلك من تبيُّن الفجر الصادق إلى الليل، مع إباحتها طوال الليل، بعد أن كانت هذه الإباحة مقيدة بعدم النوم، أو عدم صلاة العشاء، والله أعلم.
فائدة:
كلمة {تَخْتَانُونَ}، من قوله - تعالى -: {عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187]، هذه الكلمة هي أبلغ من كلمة (تخونون) التي تُفسر بها؛ وذلك لزيادة البناء، فزيادة المبنى دالة على زيادة المعنى، وتدل كلمة {تَخْتَانُونَ}، على زيادة الخيانة، من حيث كثرة مقدمات الجماع، والله أعلم[17].
مسألة:
ما المقصود بتبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود في قوله - تعالى -: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ...} [البقرة: 187]؟
قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما هو سواد الليل وبياض النهار))[18].
وقال عليه والصلاة والسلام: ((إن الفجر ليس الذي يقول هكذا))، وجمع أصابعه - صلى الله عليه وسلم - ثم نكسها إلى الأرض، ((ولكن الذي يقول هكذا))، ووضع المُسبِّحة على المُسبِّحة، ومدَّ يديه - صلى الله عليه وسلم[19].
يتبين مما ذُكر آنفًا أن تبيُّن الفجر الثاني الصادق، إنما يكون بتميُّز بياض النهار من سواد الليل؛ لأن الفجر الأول الكاذب يبدو في الأفق، ثم يرتفع مستطيلاً، ثم يضمحلُّ ويتلاشى، ثم يبدو بعده الفجر الثاني الصادق منتشرًا معترضًا في الأفق مستطيرًا، ويتميز فيه البياض والسواد في الأفق باستمرارهما وانتشارهما معترضين، فيحرم على الصائم عندها المفطِّرات حتى دخول الليل، وذلك بغياب قرص الشمس بكماله في الأفق.
هذا؛ ولما نزلت: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ} [البقرة: 187]، ولم ينزل قوله تعالى: {مِنَ الفَجْرِ}، اجتهد الصحابة - رضي الله عنهم - في تبيُّن معناها، فعمد عديُّ ابن حاتم - رضي الله عنه - إلى جعل عقالين تحت وسادته، عقالاً أبيض وآخر أسود، ليعرف الليل من النهار، وعمد آخرُ منهم إلى ربط خيطين في رجليه، أحدهما أبيض والآخر أسود، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رِئْيُهما، ولم يزل الأمر كذلك حتى نزل قول الله – تعالى -: {مِنَ الفَجْرِ} [البقرة: 187]، فتبين بذلك أن المقصود بالخيطين: خيط النهار وخيط الليل عند الفجر إذا اعترضا في الأفق؛ كما ذُكر آنفًا من بيان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: ((إنما هو سواد الليل وبياض النهار))، ومن تمثيله - صلى الله عليه وسلم - لصورة الفجر الصادق بأصابعه الشريفة، وبإحالة المسلمين إلى سماع أذان عبدالله بن أم مكتوم - رضي الله عنه - فهو المعلم بدخول الفجر الصادق، وليس أذان بلال بن رباح - رضي الله عنه - وقد كان يؤذن بليل؛ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن بلالاً يؤذِّن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم))[20].
ومما يجدر ذكره - في ختام هذا المبحث -: أن صيام يوم عاشوراء لم يزل مشروعًا مأمورًا به على سبيل الندب، بعد أن خيّر النبي - صلى الله عليه وسلم - بصيامه بعد افتراض رمضان، ومما يدلُّ عليه قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((هذا يوم عاشوراء، ولم يكتب عليكم صيامه، وأنا صائم، فمن شاء فليصم، ومن شاء فليفطر))[21]، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن عاشوراء يوم من أيام الله، فمن شاء صامه ومن شاء تركه))[22].
بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رغَّب في صوم هذا اليوم، وأكَّد استحباب ذلك، حتى في عام وفاته - صلى الله عليه وسلم - وعزم - عليه الصلاة والسلام - على المداومة على صيامه ويومٍ قبله؛ مخالفةً لاقتصار اليهود من أهل خيبر على تعظيم اليوم العاشر وتخصيصه بالصوم، فقال - صلوات ربي وسلامه عليه -: ((فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع))[23] ، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: فلم يأت العام المُقبل حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم[24].
آداب الصيام وأحكامه
كل عمل جليل له آدابُه وأحكامه؛ أداءً لحقّه، وحفاظًا عليه، ورجاء لفضله، ومن ذلك الصيام. وقد تقدَّم لنا من آدابه صومُ جميع الجوارح في النّطق والعمل؛ بل وفي التفكير، يصوم المسلم عن جميع ما نهى الله؛ بل وعن بعض ما أباحه الله له.
أما أحكامه فمحلها كتب ودروس الفقه، وتأتي حسب السؤال والاستفتاء بحسب ما يعرض للإنسان، إلا أن هناك أحكامًا عامة تتصل بالآداب من جهة مراعاتها، مما ينبغي تذكير الصائم بها، وهي تتعلَّق بمأكله ومشربه، وأفعاله وأقواله.
من ذلك التحرّي للمأكل الحلال؛ ليكون عونًا على طاعة الله، وليكونَ ذلك تعويدًا على كسب الحلال، والتَّحرّي عن الشُّبه طيلة العام؛ فيرجح إذا وزن، ويوفي إذا كال، ولا يطفّف إذا اكتال، ولا يغش ولا يدلس ولا يختلس، إلى غير ذلك من أنواع النقص في المعاملات التي تُدخل عليه مالاً حرامًا؛ إذ الواجب عليه المطعم الحلال دائمًا، وفي رمضان بالأخص؛ لأنه لا يليق به الصوم عن الحلال وإباحته لنفسه الكسبَ الحرام.
ثم يأتي بعد ذلك آداب وأحكام المطعم والمشرب، وهما وجبتا السحور والإفطار.
يعتبر السحور في رمضان خصوصية من خصوصيات هذه الأمة؛ لأنه لم يكن للأمم الماضية في صيامهم سحورٌ، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم -: ((فرقُ ما بيننا وبينهم أكلةُ السحر))، إذْ كان الصيام عند مَن قَبلنا وفي أول الإسلام، يَحرُم على الصائم الأكلُ والشرب والوطأُ من حين ينام أو يصلي العشاء، فأيّهما حصل أوَّلاً حصل به التحريم، فيُمسكون من صلاة العشاء إلى الغد، حتى تغْرُب الشمس، وتكون مدة الإفطار هي مدة ما بين المغرب والعشاء فقط، وإذا نام بعد المغرب وقبل العشاء حَرُم عليه الأكل، إلى أن جاء رجل من مزرعته بعد المغرب فذهبت زوجته تُحضِر له الطعام، فغلبتْه عينُه فنام، فلم يستطع أن يأكل ولا يشرب، وأمسك لليوم الثاني وأصبح صائمًا، فأُغْمِيَ عليْه في النَّهار، فبلغ ذلك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم، ووقع من رجل أن جاء إلى أهله، فقالت: إني قد نمت، فظنَّها تمنع عليه فواقعها، ثم تبيَّن له أنَّه اختان نفسه، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره، فاشتدَّ ذلك على النبي - صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، ونسخ المنع السابق، وأُبيح لنا الأكل والشرب والنساء، ومع إباحة الأكل والشرب طيلة الليل، إلا أنه عمل عادي؛ لكن أكلة السحر هي الرئيسة المرتبطة بالصوم؛ ولذا أكَّدها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّها رخصة من الله امتنَّ بها علينا، ومن هنا يستحبّ تأخيرُها؛ لتحقق معنى امتداد الإباحة إلى آخر الليل، فجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - الأمرُ بها: ((تسحَّروا؛ فإنَّ في السحور بركة)). والأمر بتأخيرها؛ لتكونَ عونًا على صيام النهار، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّها بركةٌ أعطاكم الله فلا تدعوها))، وقال: ((استعينوا بطعام السحر على صيام النهار، والقيلولة على قيام الليل)). ونهى - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن تقديمِه في قوله: ((لا تزال أمتي بخير ما عجَّلوا الفطر وأخَّروا السحور))، وإن ذلك يَحصُل ولو بالقليل من الطعام أو الشراب، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((السّحور كله بركة؛ فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء؛ فإن الله - عز وجل - وملائكته يصلُّون على المتسحَّرين)).
وكان سحور السلف قبل الأذان بما يتَّسِعُ لقراءة خمسين آية، مع أنه يجوز إلى قبيل الفجر بلحظات.
أمَّا الإفطار فينبغي تعجيلُه عند أول لحظة من الليل؛ أي عند تحقق دخول الوقت، كما تقدم: ((لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر))؛ رواه البخاري ومسلم. فلا يصح لإنسان بعد ذلك أن يؤخر الفطر إمعانًا في التأكد، فقد حذَّر - صلى الله عليه وسلم - من التأخير إلى طلوع النجوم في حديث سهل بن سعد عند ابن حبَّان: ((لا تزال أمَّتي على سُنَّتي ما لم تنتَظِرْ بِفِطْرها النجوم)).
وفي حديث أنسٍ أيضًا: "ما رأيتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - قطّ صلَّى المغرب حتَّى يُفْطِر، ولو على شربةِ ماء". أمَّا على أيّ شيءٍ يكون إفطاره؟ فجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إذا أفطر أحدُكم، فلْيُفْطِر على تَمر؛ فإنَّه بركة، فإن لم يجد تمرًا فالماء؛ فإنه طهور))، وجاء أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يفطر على ثلاث تمرات، أو شيء لم تصبه النار.
ووردتْ أدعيةٌ وأذكارٌ عند الفِطْرِ؛ لأنَّه جاءتْ نُصوص في أنَّ للصائم دعوةً عند فطره، ومِن الأذكار: ((اللهم إني لك صمت، وعلى رزقك أفطرت)).
وفي المبادرة إلى الفطر سرٌّ لطيف، هو الإشعار بأنَّ العبد ضعيف، وكان ممنوعًا من رزق الله، وقد جاء له الإذن بتناوله، فلا يجمل به التأخّر؛ بل يُبادر فرحًا بنعمة الله عليه، كما جاء في الحديث: ((للصائم فرحتان: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)).
ويستحب له أن يفطِّر غيرَه معه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن فطَّر صائمًا كان له كأجر صيامه، لا ينقص من أجورهما شيئًا))، ويحصل ذلك ولو بمزقة لبن أو نحوه.
أمَّا ما بين السحور والإفطار، فيجتنب شبهات الإفطار أو ما يؤدي إليه، ومن ذلك المبالغةُ في الاستنشاق؛ خشية أن يَسبقه الماء إلى حلقه. ومنها الحجامة، سواء الحاجم أو المحجوم؛ أمَّا الحاجم فخشيةَ أن يتسرَّب الدَّمُ إلى فمه، وأمَّا المحجوم فخشية أن يضعف ويحتاج إلى الفطر، وهذا ما عليه الجمهور، وعند الحنابلة رواية أنَّها تفطر؛ لما ورد من الأحاديث المتعددة، فحمَلَها الجمهور على الكراهية، وحَملها الحنابلة على التحريم، ولهذا بحثٌ مستقل إن شاء الله.
كما عليه أن يتجنب مثيرات القيء؛ لأن إثارته مفطرة، أما إذا جاءه عفوًا وغلبه فإنه لا يفطر.
كما عليه أن يتجنب مداعبة أهله إذا خشي من نفسه، كما قالت عائشة - رضي الله عنها -: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُقبِّل نساءه وهو صائم، وأيُّكم أمْلكُ لأربه؟!"؛ أي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم، وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - الشباب عن التعرض لما يخشى وقوعه. كما أن عليه أن يكثر من تلاوة القرآن، كما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أن جبريل - عليه السلام - كان يدارسه القرآن في رمضان كلَّ سنة مرة، وفي السنة الأخيرة دارسه القرآن مرتين؛ إحياء لبدء نزوله في رمضان.
وأن يكثر من الصدقات، كما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان أجود ما يكون في رمضان، حينما يُدارِسُه جبريل القرآن.
اقسام الصيام
1- صوم هو فرض: وهذا محصور في صوم رمضان، اعتقادًا وعملاً، أداءً وقضاءً.
وأُدخِل في هذا القسم - من جهة العمل فقط لا الاعتقاد - صومُ الكفَّارات: كفارة الظهار، وكفارة القتل، وكفارة اليمين، وكفارة الصيد، وفدية الأذى في الإحرام (الجانب الصيامي من هذه الكفارات) [1].
2- صوم هو واجب: وهذا كما في الصيام المنذور، وصوم التطوع بعد الشروع فيه[2]، والصوم في الاعتكاف المنذور.
3- صوم هو مسنون: كصوم اليوم العاشر من المحرَّم مع اقترانه بصوم التاسع.
4- صوم هو مندوب: وهو كلُّ صوم ثَبَت بالسنَّة طلبُه والوعد عليه؛ كصوم داود - عليه السلام - وصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ويُندَب فيها أن تكون الأيام البيض.
5- صوم النَّفْل: وهو ما سواه؛ ما لم تثبت كراهيته.
6- صوم مكروه تحريمًا: وهو صوم أيام التشريق والعيدين.
7- صوم مكروه تنزيهًا: كصوم عاشوراء مفردًا، وأيام الأعياد لغير المسلمين[3].
الشروط المطلوب توفرها في صوم رمضان:
شروط الصوم متعددة، منها ما يعود إلى الوجوب، ومنها ما يعود إلى وجوب الأداء، ومنها ما يعود إلى صحة الأداء، وإليك هي:
أولاً: الشروط المطلوب وجودُها في الإنسان حتى يجبَ عليه الصيام:
1- الإسلام.
2- العقل، وقد اختُلِف فيه لدى علماء المذهب؛ فقال البعض: هو ليس بشرط لوجوب ولا لأداء، وقال البعض: هو شرط لوجوب الأداء، وهو لعامة المشايخ؛ مستدلين بوجوب القضاء على المغمى عليه، والنائم بعد الإفاقة والانتباه، بعد مُضي بعض الشهر أو كلِّه، كذا المجنون إذا أفاق في بعض الشهر.
وعند أهل التحقيق: أنه شرط للوجوب، فإذا أفاق في الليلة الأولى، ثم أصبح مجنونًا واستوعب الشهر كلَّه، لا قضاء عليه، وهو الصحيح، وعليه الفتوى.
3- البلوغ.
4- العلم بالوجوب، وذلك كمَن يُسلِم في دار الحرب، ولم يعلم أن عليه صوم رمضان، ثم عَلِم، ليس عليه قضاء ما مضى، ولو أسلم في دار الإسلام، وجب عليه قضاء ما مضى بعد الإسلام، عَلِم بالوجوب أم لا[4].
ثانيًا: شروط وجوب الأداء:
1- الصحة، ومن كان مريضًا، لا يجب عليه أداؤه في وقته.
2- الإقامة، ومَن كان غيرَ مقيم - أي: مسافرًا - لا يجب عليه أداؤه في وقته؛ وفي هذا قوله -تعالى -: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184].
ثالثًا: شروط صحة الأداء:
1- أن يكون مسلمًا.
2- الطهارة عن الأعذار التي لا يقبل بوجودها الصوم، كالحيض والنفاس.
3- النية؛ إذ لابدَّ من وجودها، وإلاَّ ما كانت عبادة، بل عادة.
حكمه:
1- إن كان رمضانُ، وأدَّى المسلم ما افتُرِض عليه، فقد سقط عنه الفرض، ونال ثوابه المستحق، وإن لم يؤدِّ ما افتُرض عليه، فقد عُلِّقت بذمَّته هذه الفريضة، واستحقَّ الإثم والعقاب.
2- وكذلك فيما يعتبر من باب الواجبات، سوى أنه أقل من مرتبة الفرض، ثوابًا، وإثمًا.
موضع النية من الصوم وما يشترط فيها:
1- النية؛ كما علمْتَ أنها شرطٌ من شروط الصحة لأيِّ صوم كان، وبها تتميز العبادة عن العادة، والنية في اللغة: عبارة عن عزم القلب على الشيء.
2- وأما في الاصطلاح، فهي عبارة عن قصد الطاعة والتقرب إلى الله - تعالى - في إيجاد الفعل، وهي في الصوم: أن يعرف بقلبه أنه صوم، قربةً وطاعةً.
3- وقت النية:
لنية وقتان: وقت أدنى، ووقت أقصى، أو بداية ونهاية.
أما الأدنى (أو البداية)، فهي تكون بعد غروب اليوم، ولا يصحُّ أن تكون قبل الغروب، وأما الأقصى (أو النهاية)، فهي تكون ما لم يبتدأ نصف النهار[5].
هذا إذا كان الصومُ صومَ رمضان، أو نذرٍ معيَّن، أو نفل، فكلُّ هذه الأقسام تُجزئها النية من بعد الغروب إلى ما قبل نصف النهار؛ أي: النهار نفسه الذي عزم على صومه، وفيما عدا ذلك من أنواع الصيام، كالقضاء، والكفارات، والمنذور المطلق، لابد فيها من وجود النية في الليل؛ أي: قبل طلوع الفجر الذي يصومه[6].
وعند الشافعية لابدَّ من تبييت النية من الليل، فيما عدا النفل فقط؛ مستدلين بما رواه الدارقطني وغيره: أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن لم يُبَيِّتِ الصيام قبل الفجر فلا صيامَ له))، وصحَّت النية لنفل قبل الزوال؛ بِناءً على ما ورد: أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - دخل على عائشة ذات يوم، فقال: ((هل عندكم شيء؟))، قالت: لا، قال: ((إني إذًا أصوم))، قالت: ودخل عليَّ يومًا آخر، فقال: ((أعندكم شيء؟))، قلت: نعم، قال: ((إذًا أفطر)) [7].
وقال المالكية: إنه لابدَّ من تبييت النية من الليل في سائر أنواع الصيام، المفروض منها وغيرها.
وقال الأحناف - في معرض الاحتجاج لِمَا ذهبوا إليه والردِّ على الآخرين -:
1- ما ورد في الصحيحين في يوم عاشوراء: ((مَن أكل فليُمسكْ بقية يومه، ومَن لم يكن أكل فليصم))، وكان صومه فرضًا حتى فُرض رمضان، فصار سنّة، وهو يدل على أنه مَن تعيَّن عليه صوم يوم ولم يَنْوِهِ ليلاً، تجزئه النية نهارًا.
2- ما ورد مِن: ((لا صيام لمن لم يَنْوِ الصيامَ مِنَ الليل)) يُحمل على الأكمل أو الكمال؛ لأنه الأفضل من كل صوم، وأنه ينوي وقت طلوع الفجر إن أمكنه أو من الليل.
وكان أقصى وقت للنية ما لم ينتصف النهار؛ نظرًا لما ورد في الصحيحين، وهي واقعة حال تحتمل أوجه؛ إذ لا عمومَ لها في جميع أجزاء النهار.
واحتُمِل كون إجازة الصوم في تلك الواقعة لوجود النية فيها أكثر.
واحتُمل كونها للتجويز في النهار مطلقًا في الواجب، فقلنا بالأول؛ لأنه الأحوط، فضلاً عن أن للأكثر من الشيء الواحد حكم الكل، والصوم كلُّه واحد ممتد، فبالوجود في آخره يُعتبر قيامها في كله، وحُدِّدت النية إلى ما قبل نصف النهار؛ ليكون أكثر اليوم منويًا[8].
التعيين في النية:
1- إذا كان الصوم صومَ رمضان، أو صومًا منذورًا، أو نفلاً، يكفي التعيين بمطلق النية، وبنية النفل؛ وذلك لأن رمضان لا يتَّسع لغيره، فهو فرض معيَّن، فأيًّا ما نوى وقع على رمضان.
2- ما رُوي عن علي وعائشة - رضي الله عنهما - أنهما كانا يصومان يوم الشك، ويقولان: "لَأَنْ نصوم يومًا من شعبان أحبُّ إلينا من أن نفطر يومًا من رمضان".
المراجع
[1] انظر "لسان العرب"، لابن منظور (4/2592)، مادة: (ص و م)، و"القاموس المحيط"، للفيروز آبادي: (ص: 1460)، (باب الميم، فصل الصاد)، مادة (ص و م).
[2]انظر الموسوعة الفقهية، الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – الكويت (28/7).
[3]استفدت ذلك مما دونه الشيخ محمد مصطفى أبو العلا - رحمه الله - في تفسيره نور الإيمان، (1/261).
[4] أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، برقم (1128).
[5] جزء من حديث أخرجه أبو داود – مطولاً – في كتاب: الصلاة، باب: كيف الأذان، برقم (507)، وأحمد في مسنده (5/246)، كلاهما من حديث معاذٍ - رضي الله عنه.
[6] انظر: الموسوعة الفقهية (28/93).
[7] أخرجه الترمذي وحسنه؛ كتاب: الصوم، باب: ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، برقم (761)، عن أبي ذر رضي الله عنه.
[8] متفق عليه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أخرجه البخاري، كتاب أبواب التهجد، باب: صلاة الضحى في الحضر، برقم (1178). ومسلم؛ كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب صلاة الضحى، برقم: (721)، واللفظ لمسلم.
[9] أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب وجوب صوم رمضان، برقم: (1892)، عن ابن عمر - رضي الله عنهما.
[10] متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم؛ باب: وجوب صوم رمضان، برقم (1892)، ومسلم - بلفظه - كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، برقم (1126).
[11] متفق عليه من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم، باب: وجوب صوم رمضان، برقم (1892)، ومسلم - بلفظه -؛ كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، برقم (1126).
[12] متفق عليه من حديث سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: أخرجه البخاري، كتاب: الصوم، باب: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184]، برقم (1949)، ومسلم؛ كتاب: الصوم، باب: بيان نسخ قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ}، برقم (1145).
[13] أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم، باب: قول الله جل ذكره: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ...} [البقرة: 187]، برقم (1915)، عن البراء بن عازب - رضي الله عنه.
[14] أخرجه أبو داود؛ كتاب: الصلاة، باب: كيف الأذان، برقم (506)، وأحمد في مسنده (3/460)، من حديث كعب بن مالك - رضي الله عنه.
[15] تقدم تخريجه بالهامش رقم (13).
[16] قول ابن عباس - رضي الله عنهما - أخرجه الطبري في تفسيره للآية (187) من سورة البقرة، من طريق علي بن أبي طلحة عنه، أما القاسم بن محمد – وهو من فقهاء المدينة المشهورين - فروى عن عائشة - رضي الله عنها - وممن روى عنه الإمام الزهري – رحمه الله – فقد أخرج قوله الواحدي في أسباب النزول (ص52).انظر: نور الإيمان في تفسير القرآن (1/267) للشيخ محمد مصطفى أبي العلا – رحمه الله.
[17] انظر: نور الإيمان في تفسير القرآن (1/267) للشيخ محمد مصطفى أبي العلا – رحمه الله.
[18] جزء من حديث متفق عليه من حديث عدي بن حاتم - رضي الله عنه -: أخرجه البخاري؛ كتاب: الصوم، باب: قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا...} [البقرة: 187]، برقم (1916)، ومسلم؛ كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم (1090).
[19] متفق عليه من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه -: أخرجه البخاري؛ كتاب: الأذان، باب: الأذان قبل الفجر برقم (621)، ومسلم؛ كتاب: الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بدخول الفجر، برقم (1093)، واللفظ لمسلم – رحمه الله.
[20] أخرجه البخاري؛ كتاب: الأذان، باب: الأذان قبل الفجر، برقم (623)، عن عائشة - رضي الله عنهما - وفي كتاب الصوم أيضًا بمعناه، ومسلم، كتاب الصيام، باب: بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر، برقم (1092) عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -.
وقال البخاري - رحمه الله -: قال القاسم – يعني: ابن محمد، الراوي عن عائشة رضي الله عنها -: ولم يكن بين أذانهما إلا أن يرقى ذا وينزل ذا.اهـ.
ومعنى (إلا أن يرقى ذا وينزل ذا)؛ أي: إلا أن يعلوا ابن أم مكتوم المكان الذي يؤذن عنده، وينزل بلال من المكان نفسه، فالوقت بين الأذانين – على ذلك – ليس متسعًا، كما لا يخفى.
[21] متفق عليه من حديث معاوية - رضي الله عنه -: أخرجه البخاري بلفظه، كتاب الصوم، باب: صيام يوم عاشوراء، برقم (2003)، ومسلم، كتاب: الصيام، باب: صوم يوم عاشوراء، برقم (1129).
[22] تقدم تخريجه بالهامش ذي الرقم (11).أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء برقم (1134) عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما.
[23]أخرجه مسلم، كتاب الصيام، باب: أي يوم يصام في عاشوراء برقم (1134) عن عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما.
[24]قول ابن عباس - رضي الله عنهما - مدرج في آخر الحديث السابق.